الأستاذ المساعد الدّكتور
قصي عدنان سعيد الحسيني
الجامعة المستنصريّة/ كليّة الآداب/ قسم اللغة العربيّة
أتقدّم بالشّكر الجزيل لأخي وزميلي المبدع الأستاذ الدّكتور يوسف إسكندر رئيس تحرير “مجلّة المورد” العراقيّة الغرّاء، لتبنّيه مشروع استكتاب الأساتذة والباحثين في “الشّأن الموريسكي” أدبًا وتاريخًا وحضارةً، وإنّها لمناسبة رائعة؛ أنْ يكون هناك عدد خاص في مجلّة عريقة بوزن مجلّة “المورد العراقيّة” علاوة على الصِّفة الرّسميّة الّتي تحملها المجلّة، وجميل أنّ يرى هذا العدد النُّور لمناسبة “اليوبيل الذهبي” للمجلّة، وهي بادرة أولى، وسابقة علميّة رائدة في دول مشرقنا العربي من العراق وبلاد الشّام وبلدان الجزيرة العربية، فضلًا عن الدّول المغاربيّة.
لقد قدحت فكرة “الموضوعة الموريسكيّة” في تفكيري منذ العام 1992م، حين تمَّ قبولنا في الدّراسات العليا/ مرحلة الدّكتوراه في الجامعة المستنصرية/ كليّة الآداب، واتصلتُ وقتذاك بالأستاذ الكبير العروضيّ الشّاعر الدّكتور مقداد رحيم السُّلطانيّ 1953ـ2016م “رحمه الله تعالى”، استشيره في موضوع لأطروحتي في الأدب الأندلسيّ عام 1992م، وحين التقينا عرض عليَّ موضوعًا في “المقامات الأندلسيّة”، وقد صار موضوعًا لأطروحتي فيما بعد، والموسومة: (فنّ المقامات بالأندلس، نشأته، وتطوره، وسماته)، وقد طُبعت في عَمّان/ الأردن، دار الفكر العربيّ، 1999م، وفي تلك الأثناء وقع بين يدي كتاب “الأندلسيون المواركة”، الدّكتور عادل سعيد بشتاوي، وحين قرأتُ المقدِّمة، وتصفحتُ الكتاب، رأيت في هذا التّاريخ ما هو إلّا امتداد لتاريخ الأندلس، ناظرًا إلى أسماء المدن وأسماء الأعلام، وهو ما قاله لي الدّكتور مقداد بعد مُضي أكثر من عشرين عامًا: (من أنّ الأدب الموريسكيّ ما هو إلّا امتداد إلى الأدب الأندلسيّ)، والفارق بعد تسليم مملكة غرناطة 897هـ ـ 1492م، هو تبدّل نوع الحُكم القائم من حُكم إسلاميّ إلى حُكم نصرانيّ! باعتلاء فرناندو وزوجته إليزابيث “الكاثوليكيان”، وظلّ الشعب الأندلسي في المملكة على ما هو عليه لم يطرأ اي تغيير، لكنّ الغريب في الأمر صار يُدعى (بقايا الأندلسيين، أو الأقليّة الإسلاميّة)!! وهذا فيه حديث واسع وشائك.
فتسألتُ في نفسي، ما الّذي حدث؟ أين بنو الأحمر؟! أين الغرناطيون؟ أين المجتمع الأندلسي؟!
وحينها لم ترتبط الأحداث في مخيلتي لتؤدّي بيّ إلى ما أدّت إليه في العام 2016م، فعزفتُ عن ذلك الموضوع للسّبب السّالف مع أسباب أخرى أدركتها في الحال، وتكون نصب عينَي طالب الدّراسات العليا، وهي هل أنّ مصادر الموضوع وروافده في متناول اليد، أم لا؟ وهل استطيع أنْ أتوافر على حيثيات هذا الموضوع البِكر على مشرقنا العربي!
وبعد ذلك اصطدمتُ بعقبة، وهي نُدرة مصادر هذا الموضوع إنْ لم أقل من عدمها في الأعمّ الأغلب، وعقبة أخرى هي أنّ السّفر كان ممنوعًا قبل عام 1996م، لذا تظافرت عوامل عدّة على أنْ أترك الموضوع وبرضى من نفسي و(مُجبرٌ أخاك لا بطل)!
وكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لمشروعي أنْ تنضج جوانبه على يدي الباحثين في الدُّول المغاربيّة “تونس والجزائر والمغرب”؛ لأنّها الفضاء الّذي ضمَّ أحفاد مسلمي الأندلس بعد قرار الإجلاء “اللاإنساني” سنة 1609م، وأخصُّ منهم المغرب الّتي كانت القلب النابض لهؤلاء المهضومين، وانطوت السُّنون حتّى أردّت أنْ أقدّم على ترقيتي للأستاذ المساعد “الّتي تأخرت بفعل انشغالي بالمشروع فعليًا منذ العام 2011م، فأخذتُ أعدُّ العُدّة في البحث عن مصادر هذا الموضوع داخل بلدي العراق وخارجه، ثم الدّخول على الشّبكة العنكبوتيّة؛ من أجل التّزوّد من المعارف الإليكترونية بتحميل الكتب والمقالات، وكلّ ماله علاقة بالموضوع، وفي هذا الخضم رجعت إلى منهلي الأوّل أستاذي الكبير الدّكتور مقداد “رحمه الله تعالى”، وكان في وقتها في مملكة السّويد قد هاجر مع عائلته منذ تسعينيات القرن العشرين، فاتصلتُ به هاتفيًا، وعرضتُ عليه الموضوع، فأجابني:
(إنّ الأدب الموريسكيّ ما هو إلّا امتداد للأدب الأندلسي).
بعدما سألته عن مدى علاقة الأدب الموريسكيّ بالأدب الأندلسيّ، وقد فتحت لي هذه العبارة آفاقًا كبيرة، وأنارت لي جادة البحث، وربطت عندي ماضي السّنوات بحاضرها حين تواصلت معه بالحديث منذ العام 2011ـ2016م، فكانت هذه الأعوام ما بين سفر وترحال من تركيا إلى إيران وسوريا ولبنان وتونس، اقتناء للكتب، والكثير من الجهد والتّعب والنّصب وإنفاق المال الكثير، لكنْ ـ ولله الحمد ـ
والحقُّ يقال إنّ أوّل بحث أكاديمي في الأكاديميات العراقيّة، وأجزم في مشرقنا العربيّ كان لأخي الفاضل الأستاذ الدّكتور محمود شاكر محمود تخصّص أدب أندلسي ونقده، وهو زميلي في قسم اللغة العربيّة/ كليّة الآداب/ الجامعة المستنصريّة، وقد كتب بحثًا في الأدب الموريسكي من مصادره العربيّة، وكان بحثه موسومًا بـ: “الشّاعر الموريسكيّ مؤرخًا”، والمنشور في مجلّة كليّة الآداب/ جامعة بغداد/ ع 103/ س 2013م.
وكان هذا البحث أوّل الغيث، وبعد ثلاثة أعوام تمخّض لدي ولادة بحثين جديدين من مصادرهما العربيّة والمترجمة على السّاحة الأكاديميّة العراقيّة، وهما:
1ـ الشّعر الموريسكيّ، الأصول والموضوعات، نُشِر في مجلة آداب المستنصريّة، الجامعة المستنصريّة، ع 76، 2016م.
2ـ النّثر الموريسكيّ، الأصول والموضوعات، نُشِر في مجلة التّربيّة / الجامعة المستنصريّة، ع 6، مج 2، 2016م.
ومن خلال الأعوام السّتة كانت لي رحلات خارج بلدي الحبيب العراق بحثًا عن المصادر وملاقاة العلماء من المختصين، أمثال العلّامة الأستاذ الدّكتور عبد الجليل التّميميّ رئيس مؤسّسة “التّميمي للبحث العلمي والمعلومات”، والعلّامة المحقّق الأستاذ الدّكتور جمعة شيخة، وكلاهما من جامعة منّوبة في العاصمة تونس، والأستاذ الدّكتور عبد الله فضل الله رئيس قسم اللغة العربيّة في كليّة الآداب/ الجامعة اللبنانيّة ـ وقد زرتُ الجامعات والمكتبات في تركيا وإيران ولبنان وسوريا ـ وناقشت أساتذة الاختصاص في الأدب الأندلسي، ومنهم أ.د. عبد الله فضل الله في الجامعة اللبنانية / كلية الآداب / قسم اللغة العربية، فوجدت لديه شذرات عن ماَسي محاكم التّفتيش مع أواخر مسلمي الأندلس من “الموريسكيين”، وكذلك مع يهود الأندلس “السفارديم” بعد تسليم مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين الشّامخة 897هـ – 1492م.
وقد استبشر أ.د. عبد الله فضل الله خيرًا بما سمع منِّي بصدد “الموضوعة الموريسكيّة” في مشرقنا العربيّ،؛ لعدم وجود جهود علميّة أكاديميّة تحمل على عاتقها هذا العمل البكر في مشرقنا العربيّ، وحين عرضت عليه إلقاء محاضرة على طلبة الدِّراسات العليا، وأساتذة قسم اللغة العربية في ذلك الموضوع، لكنّ الوقت لم يكن مناسبًا؛ إذ كانت الامتحانات الفصليّة في الجامعات اللبنانيّة على الأبواب والجميع في عطلة ما قبل الامتحان، وهي عطلة غير رسمية للأسف هكذا تعارفت عليه جامعاتنا في البلدان العربيّة!
وفي أثناء حوارنا أنا و د. فضل الله إذ دخل علينا أستاذ لبناني مهيب الجناب، وقورٌ محبوب السّمت، وهو أ.د. طلال علامة، أستاذ اللغة في قسم اللغة العربيّة/ كليّة الآداب/ الجامعة اللبنانيّة، وقد شاركنا في قسم من أطراف الحديث.
والشّيء بالشّيء يُذكر أنّني اقتنيت كتابًا للدّكتور عبد الله حمّادي (الجزائر) من إحدى مكتبات مدينة قُم في إيران في صيف عام 2018م، من مجمّع القُدس للكتب، الّذي يقع قُبالة مكتبة السّيِّد شهاب الدّين المرعشيّ النّجفيّ 1897ـ1990م، وعزمتُ على أنْ أقرأ كتاب د. عبد الله حمّادي في مكتبة المرعشيّ النّجفيّ؛ محبة لهذا العالم الورع صاحب أكبر مكتبة للمخطوطات الإسلاميّة في العالم، وفعلاً قرأت غالبية الكتاب عند قبره الشّريف والمدفون عند بوابة المكتبة! بحسب وصيته؛ وحين سُئل عن سرّ أنْ يكون قبره عند باب المكتبة أجاب، بقوله: (أريد أنْ تطأَ أقدام الباحثين قبري)، فعلاً هذا رجل قدّيس!
أعود وأقول: بدأت بشائر الأدب في الدّول المشارقيّة بشأن “الموضوعة الموريسكيّة” في العام 2012م، وبخاصّة في الفضاء الأدبيّ: فكانت رواية (مخيّم المواركة) للرّوائي العراقي والقاصّ المبدع جابر خليفة جابر، ط1/ 2012م، وديوان (من أوراق الموريسكي) للشّاعر حميد سعيد/ ط1/ عمّان 2012م ، أمّا في الجانب التاريخي فهناك خطوات جريئة وناجحة للأخوة الزُّملاء الأكارم: أ.د رضا هادي عبّاس، أستاذ التاريخ الأندلسيّ، و أ.م. د عدنان خلف سرهيد أستاذ التاريخ الأندلسيّ أيضًا، وكلاهما من كليّة التربيّة/ الجامعة المستنصريّة، و أ.م. د صفاء عبد الله برهان في بحوثه الموريسكيّة القرآنية كليّة العلوم الإسلاميّة/ جامعة بغداد، والأخت الفاضلة د. بشرى الزُّوبعي، في كتابها “محاكم التّفتيش”.
وتوطدت أواصر علاقتي مع العلّامة الموسوعيّ أ.د. عبد الجليل التّميميّ، وبدأت الاتصالات تستمر أكثر فأكثر، فطلبتُ منه دعوة لزياته وزيارة مؤسّسته: “مؤسّسة التّميميّ للبحث العلميّ والتّوثيق”، فلبّى الرّجل الطّلب مشكورًا ووجّه دعوة لي وعلى جناح السُّرعة ـ والتّميمي رجل غاية في التّواضع العلميّ والخُلُق الأبوي الّذي يعامل فيه الباحثين من مختلف الجنسيات ـ وما أنْ أخذتها إلى السّفارة التُّونسيّة في بغداد حتى تم تأشير دخولي، وقضيتُ سبعة أيام كاملة في مكتبته، وعرضتُ عليه بحثيَّ: “الشِّعر الموريسكيّ الأُصول والموضوعات” و “النّثر الموريسكيّ الأُصول والموضوعات”، وعرضتُ عليه أيضًا بحثاً ثالثاً وهو العمود الفقري للمشروع إذ بدون هذا البحث لا ينهض المشروع بشيء! وتكون أعمالي مثل أعمال من سبقني من كُتاب الدُّول المغاربية؛ لعدم وجود مساحة للسّقف الّزمنيّ الّذي يحتوي الأندلسيين “الموريسكيين” بعد تسليم مملكة غرناطة 897هـ ـ 1492م، والأصل في الموضوع “التّحقيبيّ” حين شرحت للعلّامة التّميميّ موجز البحث، والموسوم بـ: “العصور الأندلسيّة قراءة تحقيبية جديدة، العصر الموريسكيّ أنموذجًا” 897 ـ 1018هـ / 1492 ـ 1609م.
أقول: حينما كتب باحثو الدُّول المغاربيّة الآلاف من الصّفحات والمقالات والبحوث والكتب المعتبرة كلّها كانت على قدر من الأهميّة بمكان بلا شكّ، وكان لكلِّ باحث نصيب فيما كتب، وبصمة فيما وضع، وحينما كنت أتحدّث معه ـ أي مع العلّامة التّميميّ ـ كنت أُشير بالكلام والسُّؤال شخصيّ ـ كأنّه موجّه ـ لي أنا، لا إليه؛ لأنّه لا يجوز توجيه هكذا سؤال إلى شخص بوزن “سِيدِي عبد الجليل، كما ينعتونه في مؤسّسته”، وهو يمثل علامة فارقة في التّاريخ الموريسكي، وتراثه على مستوى العالم، ولا على أولئك الباحثين من الدُّول من المغاربيّة؛ لأنّ ذلك في رأيي منافياً للأدب، وقادحاً للأخلاق بأنْ أصف عملهم بالنُّقصان على ما فيه من النّضج والكمال فواصلت حديثي قائلاً: حينما اتممت بحثيَ الآنفين وجدتُ نفسي أدور في فضاء لا قاع لي ارتكز عليها، وانطلق منها، فبالأمس كُنّا نكتب عن الفضاء الأندلسيّ من الفتح حتّى توقيع معاهدة التسليم، وكان الفضاء كلّه أندلسيًا أرضًا وسماءً وهواءً وشعبًا ولغةً ، والآن وبعد التّسليم أي بعد 897 هـ – 1492م صرنا نتحدّث عن شعب فجأة أمسى أقليّة!
أقول: وهذه من الإشكاليات المفاهيميّة الّتي نادرًا ما تجد باحثًا يستطيع أنْ ينهض بها ويناقشها! فكيف بشعب كبير، ومملكة واسعة بملكها وشعبها، تُمْسي أقليّة بين ليلة وضحاها!
أين ذهب الشّعب الأندلسيّ سواءٌ في مملكة غرناطة، أو في بقيّة الأقاليم والمدن والقصبات؟
وبمجرد أنْ تمّ توقيع اتفاقية التّسليم، أمسى المؤرخون يُسمُّون أواخر مسلمي الأندلس بـ(الأقليّة)، ولا أعلم كيف اتفق المؤرخون على قضيّة تاريخيّة خطيرة دونما تثبّت أو تأمّل أو تمحيص أو تحقيق، ولهؤلاء كل الاحترام والتّقدير، وهذا الموضوع يحتاج إلى كبير جهد، ودقّة عمل؛ من أجل أنْ تُفنّد هذه القضيّة، وأنْ لا نقبل بأي رأي فيه إجحاف لأي قضية تخصُّ فكرنا العربيّ الإسلاميّ، الّتي من شأنها أنْ تحافظ على هويتنا العربيّة والإسلامية.
وفي مثل الأجواء، وهذه الدّوامات الفكريّة الّتي تُحيل القارئ العربيّ، وغيره من المهتمّين بتراثنا الأدبيّ والثّقافيّ، أنْ تتولّد لديه نظرة سلبيّة على إحدى الجنبات الحضارية لتراثنا العربيّ والإسلامي، ناهيك عن تخرّصات قسم من المتحاملين من المستشرقين، والقسم الآخر من كتّابنا أو باحثينا مِمَن لم يُمهل نفسه وقتًا للتفكّر والتّأمّل في الكتابة عن تراثنا العربيّ والإسلامي، وآخرين يتفقون مع ما يُقرّه المستشرقون من منعطفات خطيرة وحسّاسة في مسيرة حضارتنا، ويأخذ بذلك للأسف من باب المسلّمات الّتي لا نقاش فيها، ولا تحتمل التّفنيد البتّة! وهذه ألوان من المطبّات الفكريّة الّتي حاولت حصرها ورصدها ـ من قِبل كاتب المقال ـ ومن قِبل قسم من الأكاديميين والمهتمّين بتراثنا الأثيل.
وعلى ما سبق ـ وجّهت سؤالًا للعلّامة التّميميّ، قائلًا: (إذا كان هذا الشّعب يملك هذا الأدب، ويملك علومًا دينيّة، ويملك تراثًا ضخمًا بدلالة أنّ المختصّين من الباحثين يُطْلِعُونا بين الفَينة والأخرى على متون أدبيّة جديدة ـ شعرًا ونثرًا ـ ونصوص دينية تعالج قضايا في صميم ديننا الإسلامي الحنيف، وهذا النّتاج بلا شكّ ينمُّ عن شعب حيٍّ يريد أنْ يُكمل مسيرة آبائه وأجداده بكلّ ما يملك من أدب ولغة ودين، ليُثبت من خلالها للآخر الإسباني ـ بكل ما يحمل من عُقّدٍ، وكراهيّة ـ أنّه سليل هذا الفضاء الأندلسيّ الإسلامي، وهو باني هذه الحضارة الّتي يشهد العالم بأجمعه على سموها ورُقيها الّتي جعلت من رقعة إسبانيا والبرتغال لها من الشّأن ما ترجوه دول العالم أنْ تكون بمكانتها.
وإذا كانت هذا الأمّة ـ الموريسكيّة الحيّة ـ تملك تراثاً فكريًا بهذا الحجم فأين السّقف الّزمانيّ الّذي شغلوه؟ وما حدود فضائهم المكانيّ، وهي سليلة حضارة الـ”800″ عام، الّذي أنتج حضارة دوخت العالم بأفكار علمائها وثقافاتهم، ووضعتْ أُسُسًا لنوابغ علماء الأندلس اتّخذها العلماء المشارقة منهاجًا لأصناف من المعارف، كما في ألفيّة ابن مالك محمّد بن عبد الله بن مالك الطاّئيّ الجيّانيّ 600ـ672هـ، وهذا غيضٌ من فيض، وما وصل إلينا من متون موريسكيّة للشّعب الأندلسيّ بعد تسليم مملكة غرناطة، يكفيها فخرًا أنْ تزاحم عليها المستشرقون والمتأسبنون، وجملة وافرة من العلماء والباحثين من مشارقة ومغاربة، وليس المكان مكان استعرض لأسماء العلماء وانجازاتهم؟
ووفقًا للمعطيات أعلاه يتوجب علينا أنْ نضع لهم عصراً يخصّهم ويمثّلهم، ألا وهو (العصر الموريسكي)، ومن خلال البحث الدّؤوب الّذي بذلته في كتابي (الأدب الموريسكي)، وهو تحت الطّبع سيكون هذا العصر هو (العصر الموريسكي الأوّل) الّذي يبدأ من تسليم مملكة غرناطة حتى قرار الجلاء اللاإنساني المقيت سنة 1609ـ1614م، أمّا المساحة الزّمنية فقد كانت تتّسع وتضيق بحسب التّعامل الوحشي لرجالات ديوان محاكم التفتيش.
وبعد سماع العلّامة التّميميّ لحديثي وأدلتي، وناقشني في كثير من مفاصل الموضوع اغتبط وفرح فرحًا كبيرًا للحُجج العلمية المقنعة والمدعومة بالدّليل العقليّ الّذي يسندهُ الواقع العملي للموريسكيين، وأردف قائلاً لي، نحن لا نتفاجأ من العراقيين ومن روائع ابتكاراتهم، وطريقة تفكيرهم، فأجبته استاذي دكتور عبد الجليل: ما أنا إلّا ثمرة من ثمار مؤسّستكم العلميّة الجادّة في عملها وسيرتها، ولا فخر وقد أغرقني بجميل عباراته، ومدحه لمشروعي، وقد اعجب أيّما إعجاب ببحثي (تحقيب العصر الموريسكي)، ووجّه لي دعوة أخرى للحضور في المؤتمر الدُّولي الثّامن عشر للدّراسات الموريسكيّة والأندلسيّة، قائلًا لي بالحرف ما نصُّه إنّ المؤتمر الثّامن عشر لا يدخل موضوعك فيه، ولكنْ لجدّته، وابتكارك الجديد سيكون من أولى البحوث الّتي سوف تُلقى في أعمال المؤتمر.
وقمتُ بتسليم بحوث المشروع الثّلاثة، وطلب منّي أنْ تبقى البحوث عندي لمدّة ثلاثة أيام، للاطّلاع عليها وتقريضها تقريضًا علميًا، وبالفعل كان له ما أراد، وبعد ثلاثة أيام قرّض بحوثي تقريضًا علميًا منصفًا، ومنحني الرِّيادة بتاريخ (2/آب/2017م)، عن بلاد الشّام والعراق وبلدان الجزيرة العربيّة من حيث أنْ موضوع (التّحقيب) لم يُطرق في بلدان المشرق العربيّ جملة وتفصيلاً؛ وبناءً على ذلك وجّه العلامة التميمي ـ كما أسلفت قبل أسطرـ دعوة لي للمشاركة في المؤتمر الدّوليّ الثّامن عشر للدّراسات الموريسكيّة والأندلسيّة، ولبّيت الدّعوة في المشاركة، وكان مؤتمرًا فريدًا من نوعه من حيث الموضوعات، ونوعية الشّخصيات الّتي شاركت فيه، والّتي تنوّعت، فكانت من العراق وكنت الوحيد بينهم، فكانوا من الكويت وفلسطين والجزائر وتونس والمغرب وإسبانيا وبورتريكو، ودول أخرى لم تحضرني مسمّياتها الآن، وفي أثناء المؤتمر وجّه العلّامة المحقِّق الأستاذ الدّكتور جمعة شيخة، الأستاذ في جامعة منوبة في تونس العاصمة ريادة واستشهادا في (تحقيب العصر الموريسكي)، ومما جاء في تقريضه لمشروعي قوله: (إنّ الاقتراح الّذي قدّمه د.قصي عدنان الحسيني أستاذ بقسم اللغة العربيّة بجامعتكم الموقّرة }مخاطبًا رئاسة الجامعة المستنصريّة{، لتدريس مادة الأدب الموريسكي ضمن مفردات الأدب الأندلسي في المقرر الدّراسي للمرحلة الثّالثة في قسم اللغة العربيّة / كليّة الآداب/ الجامعة المستنصريّة، لجدير بالاهتمام والعناية من طرف المجلس العلمي للجامعة)، وكان ذلك في آب/ 2017م.
وحين عدّت إلى العراق، عرضت عليّ الأستاذة الكبيرة الدُّكتورة لطيفة الموسوي، أنْ أعرض مشروعي على العلّامة الدّكتور أحمد مطلوب “رحمه الله تعالى” 1936ـ2018م، رئيس المجمع العلمي العراقي، وأخبرتني بأنّه رجل عالم يُقدِّر هكذا مشاريع بحثيّة، وفعلًا توجّهت إليه، وعرضت عليه ما بجعبتي ـ فوجدته كما وصفته الدّكتورة لطيفة ـ وأريته ما كتبه العلّامة التّميميّ والعلّامة جمعة شيخة بحقّ مشروعي من الرّيادة في المشرق العربيّ، وأهميته على مستوى التّفكير الحضاري للأمّة الأندلسية بعد تسليم مملكة غرناطة، وعلى مستوى الحضارة الإسلاميّة بشكل عام، وبإذن الله تعالى سأنشر هذه الوثائق في كتابي (الأدب الموريسكيّ)، وقد منحني تأييدًا لمشروعي، ووصفه بأنّه: (خطوة جديدة في سبيل الدّراسات الأندلسيّة)، وكان ذلك بتاريخ 17 / 9 / 2017م.
وآخر استشهاد حصلت عليه من العلّامة الأستاذ الدّكتور محمّد حسين آل ياسين رئيس المجمع العلمي العراقي، فوصف المشروع قائلًا: (كان الدّكتور قصي الحسينيّ أوّل المختصِّين بالأدب الأندلسي من المشرق العربيّ الإسلامي في طرح ملامح مشروعه العلميّ الّذي بناه على أُسس منهجية موضوعية، وأكمل رسم ملامحه وسماته فاستوى أُطروحةً بليغة الدّلالة على سعيه الجادّ لإثبات الحقِّ بِغَيَرةٍ على المسلمين من العرب والأمازيغ، الّذين لقوا العنت والعذاب والتّنكيل بجُرم كونهم عربًا مسلمين يتخاطبون ويكتبون بالعربيّة بالله الواحد ورسوله الكريم، كلّ ما يلقونه من المعاناة والقتل والعسف، حين اشتدت عليهم محاكم التّفتيش تنكيلًا، كتبوا أدبهم العربيّ باللغة القشتالية بالأحرف العربيّة، وهي اللغة المعروفة باسم “الألخميادو”)، وكان ذلك بتاريخ 2 /1/ 2022م.
أقول: هنالك أمر آخر لم يذكره جُلّ الذين استهوتهم ثيمة “الفضاء الموريسكي” أدبًا ( أخصُّ بالذّكر منهم) وتاريخاً، وهو أمر تحقيب العصور الأندلسيّة، ومنه تحقيب العصر الموريسكي أنموذجًا، وهذا مجال بحث ليس بالسّهل اليسير، إذ يحتاج إلى عناء طويل، وصبر كبير، وليس هذا يصدق على موضوعة “العصر الموريسكي” ضمن العصور الاندلسية.
والعمل على إجراء مراجعة علمية تاريخية أدبيّة لتشمل كلّ مجالات المعرفة من أجل إجراء تحقيب جديد للعصور قاطبة، وإنْ لم يكن ذلك بالإمكان، فلابُدّ أنْ تكون الدِّراسة التّحقيبية من مطلع القرن العشرين، وحتّى مطلع الألفية الثّالثة؛ ليكون الباحث على بينة من أمره حين يكتب، وأنّي لأعجب، حينما يكتب الباحثون في الفضاء الموريسكي لا يلتفتون البتة إلى ما يُسمّى بـ(العصر الموريسكيّ)، ولو سألتهم سواء من يكتب في الأدب أو التأريخ، أنت تكتب الآن في ذلك الفضاء:
ففي أي عصر أنت تكتب؟ !
وما هو السّقف الزّمني لذلك؟ !
ما حدود ذلك السّقف أو هذا العصر؟ !
أنا متأكد وبضرس قاطع حتى مع الكُتّاب من الدُّول المغاربيّة لربما لا يجدون جواباً حاسماً ومقنعًا لأسئلتي
إنّ من دواعي إثبات حقوق الشّعب الأندلسي بعد تسليم مملكة غرناطة 897هـ ـ 1492من، هو إيجاد عصر لهم، مثل بقيّة الشُّعوب الّتي حقّبت عصورها بشكل يحفظ لها شخصيتها الحضاريّة وهويتها الدّينية والثّقافيّة، فكما كانت له بداية ستكون له نهاية.
فكيف نُطالب بحقوقهم؟ ولا نعرف بأي عصر هم يعيشون!!
زملائي الأكارم زميلاتي الكريمات من الباحثين في موضوعة (الأدب الموريسكيّ) أرجو من حضراتكم أنْ تتفقّهوا في جُلّ ما تكتبون، وأنْ لا تكون موضوعة “الأدب الموريسكيّ”، تمثّل “نزعة أكاديمية” لدى طلبة الدّراسات العُليا أو من خارج الحقل الأكاديمي مع أنّه من المفرح جدًّا والمشجّع أنْ يبادر ثُلة طيبة من الأساتذة، وثلّة أخرى من طلبة الدّراسات العليا للبحث والكتابة في هذا المضمار الجديد كل الجدّة على بلدان المشرق العربيّ (العراق وبلاد الشّام وبلدان الجزيرة العربية)، لكنْ شرط أنْ يستوعب الماهية التاريخية الّتي أحاطت بهذا الشّعب، والكوارث الّتي ألّمت به على مدى أكثر من قرن ونصف بعد تسليم مملكة غرناطة؛ حتّى يُدْرك ما يكتب، وبعلميّة راسخة.
أرجو من الله تعالى التّوفيق لِمن يسبر أغور هذا الميدان الوعر المستصعب.
وأخيراً أودُّ أنْ أقول إنّ رحلتي مع “المشروع الموريسكيّ”، كانت رحلة شاقّة، لكنّها كانت مثمرة، ولله الحمد أوّلًا وآخرًا.


