دمشق الأصالة، دمشق الحبيبة في شعر نزار قباني

يقول نزار قباني:

  في دمشق لا أستطيع أن أكونَ محايدًا… فكما لا حيادَ مع امرأة نحبُّها. وأصبح عشقي لها فضيحةً معطّرة. تتناقلها أجهزة ُالإعلام.

إنَّ دمشق تتكمّش بي .. كما يتكمّش الرضيع بثدي أمّه، مستوطنة في صوتي، في حبري، وفي دفاتري، كما يستوطن السكر في شرايين العنقود

 قصائدي كلها معمرة على الطِّراز الشامي

كل ميم هي امرأة دمشقية، وما أكثر الميمات في دواوين شعري.

هكذا نرى أنّ نزار لم يفارقه حبّ دمشق .. بل كانت تذهب معه إلى كلّ مكان .. وتنام معه.. تشكل كينونته و جغرافيته وتستوطن في قلبه…

 ولعل تجربة الشاعر نزار قباني. من أكثر تجارب الشعراء المعاصرين إثارة للجدل والالتباس؛ لما تحمله من معان فيها الكثير من الجماليات الأخاذة التي تشغف الفكر وتجعل النفس تنتشي سكرًا بمعانيه وبلاغته المرصعة بحب دمشق.

فشاعرنا دمشقي المولد، دمشقي النشأة، دمشقي الهوى، دمشقي الشعر الذي خلد فيه دمشق التاريخ. دمشق العروبة، دمشق الصمود والنضال. يقول في نثرية بعنوان قوس قزح” أنا محصول دمشقي مئة في المئة وأبجديتي تحتشد فيها كل مآذن الشام، وحمائمها، وياسمينها، ونعناعها، قصائدي تضيئها عينان دمشقيتان.

ويحد ثنا نزار عن طفولته صادحًا:

إن طفولتي باختصار كانت علبة ألوان فإذا كنت قد رمت بالكلمات فلأن البيت الشامي الذي ولدت فيه كان بمثابة الأتولييه. الذي جهزني بكل المواد الأولية من فراش وألوان وقماشات. لأصنع لغة فيها الكثير من تشكيلات قوس قزح.

 ولقد كان بيت نزار قباني في دمشق علامة فارقة من العلامات التي رسمت خيوط حياة هذا الشاعر فجعلته كالقط الأليف الذي يأنف أن يخرج من داره إلى الأزقة والزواريب والحارات .. فألفته لبيته كانت القاعدة الصلبة لوصوله إلى سؤدد المجد.

 يقول نزار عن طفولته في بيته العتيق في مئذنة الشحم:

طفولتي قضيتها تحت مظلة الفيء والرطوبة التي هي بيتنا العتيق في مئذنة الشحم.

هل تعرفونَ معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة. وثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر. وإنما أظلم دارنَا.

هذا البيتُ الدمشقيُّ الجميلُ استحوذ على كلَّ مشاعري، وأفقَدَني شهيّة الخروجِ إلى الزُّقاق، ومن هنا نشأ عندي هذا الحسُّ (البيتوتي) الذي رَافقني في كلِّ مراحل حياتي. كان هذا البيت نهايةَ حدود العالم عندي.

وعن هندسة البيت الدمشقي الخاصة به. فيقول نزار:

البيوت الدمشقية بيوت عاشقة..

فهي تسلم على بعضها صباحا..

وتتبادل الزيارات في السرّ ليلاً

ثم انتقل نزار من بيته الدمشقي إلى مدرسته التي نشأ وتعلّم فيها من الصف الأول إلى الشهادة الثانويّة: يحدثنا نزار قائلاً:

” كانت مزروعة في قلب دمشق القديمة، حيث كانت تسكن، ومن حولها ترتفع مآذنُ الجامع الأمويّ وقبابه، ويأتلق قصر العظم برخامه. فإنّ طريقنا إلى المدرسة كان طريقاً فلكلوريّا مغرماً بشاميته. ومع مغرب الشمس كنّا نعود إلى البيت حيث أمّي الملكة، وكنّى أغنى رعاياها.

نعم نزار يحبّ دمشق ولكنه لا يتعصّب لها، بل إنّ كل مدينة عربية هي أمّه، يحبها كما تحبه، يقول:

دمشق، بيروت..

الكويت، أبو ظبي، وأخواتها..

هذه هي شجرة عائلتي..

كل هذه المدائن أنزلتني من رحمها

وأرضعتني من ثديها

لذلك لا أدخل مدينة عربية إلا وتناديني

يا ولدي

وحين أطلقت النكسة برأسها الكئيب، أثّرت على عاشق دمشق فلم يتمالك نفسه إلا أن يخاطبها مخاطبة المحب الجريح، طالباّ منها أن تضمد جراحه وتنفي همومه؛ ليرجع ذاك المحب الذي يعبث في أحضانها، فيقول:

فرشت فوق ثراك الطاهر الـهدبا فــياــ دمــشق لــماذا نــبــدأ الــعتبا

حـــبيتي أنـــت فاستــلقي كــأغـنية على ذراعي ولا تستوضحي السببا أنـــــت الـنساء جـميـعاً مـا مـن امـرأةٍ أحببتُ بعدك إلا خلتها كذبا

يا شام إن جراحي لا ضفاف لها فامسـحي عن جبني الــحزن والتــعبـا

وفي تشرين التحريرية حيث تعانق الحب مع الرصاصة، والكلمة مع البندقية وبيت الشعر مع المدفع والصاروخ، فأصبح الغزل العربي أكيدا يمحو آثار نكسة حزيران…وكان لابد من أن يسجل نزار هذه الانتصارات في مشاعره وأحاسيسه قبل أن يرصفها حروفا وكلمات .. فيقول مبتهجا بانتصار تشرين العظيم :

أتراها تُحـــبني مَـــيسونُ أم تـوهَّمـتُ و النـساءُ ظنــونُ

كم رسول أرسلته لأبـيها ذبحته تحت النقاب العيونُ

جاء تشرين يا حبيبة عمري أحسن الو قت للهوى تشـرين

وأما هواه لدمشق قديم قدم الحياة، فها هو يترنم في القصيدة الدمشقية:

هذي دمشق وهذي الكأس والراح إني أحب وبعض الحب ذباح

أنا الـدمشقيّ لو شــرحــتـم جـسدي لـسال مـنـه عــــنـاقـيـد وتــفـاح

وعندما يكون نزار بعيدًا عن دمشق ..يجعل منها رسائل عشق ومحبة يرسلها إلى أمه، في كل بلد يحل فيه، فهو لا ينسى ليلها ولا مآذنها، فيقول في قصائده المرسلة إلى أمه:

 مضى عامان يا أمي

وليل دمشق.. فل دمشق

تسكن في خواطرنا

و أجاب نزار فتاة جميلة؛ إذ ظنت نفسها بأنها إسبانية الشكل والمضمون، فأجابها نزار بالأبيات الآتية عندما سألته، أين تكون دمشق؟

ودمشق… أين تكون؟ قلتُ تَرَيْنها في شعرك المنساب نهر سواد

في وجهك العربي في الثغر الذي مازال مختزناً شموس بلادي

ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيدة سمراء مـــن أحـفــادي

فالإسبانية التي أرادت أن تتباهى بغرناطة وكل ما فيها من روائع الفن ، وأرادت من شاعرنا العظيم أن يعترف بعظمة أجدادها وحضارتهم. ولكن نزار لم يستطع إلا أن يطلع هذه الفتاة على حقيقة الأمر ويعلمها بأن أجدادها العرب هم أصحاب هذه الأمجاد الخالدة لا كما تعتقد. فقال:

قالت: هنا الحمراء زهُو وجودنا فـاقـرأ عــلى جـدرانـها أمـجـادي

يا ليت وارثتي الجميلة أدركت أن الــــذيــن عـــنـتـهـم أجـــــدادي

  فالصورة الشعرية عنده هي عالمه الشعري تعبر عما في خلجات النفس المتعلقة بدمشق حبيبته. فقد جعل الشعر كالهواء يخترق البيوت من الأبواب والنوافذ كالشمس.

أما عن اللغة الدمشقية والمفردات الدمشقية، لغة لها رنينها في أسماع الدمشقيين وقلوبهم معبّرة عن حالاته المختلفة في مختلف أطوار حياته، وفي مختلف نزعات نفسه. فجاء فريدا لكلمات (الفل .. الياسمين .. الطوق .. الحلق .. العرقسوس…الخ).

ولاشك أن محبة أهل دمشق لبعضهم سيطرت على الدمشقيين، وهذا ما رأيناه عند السيد عباس نظام الذي اشترى بيت والد نزار قباني وهو أحد وجهاء دمشق.

ففي يوم وفاة نزار قباني، وقد مر على شرائه البيت خمسون عاما، فتحه لمدة ثلاثة أيام، كعادة الدمشقيين لتقبل العزاء.

فيبوح في النهاية نزار قباني بلغة رقيقة تربّعت على عرائش مفرداته:

” ولقد سافرت كثيرا بعد ذلك، وابتعدت عن دمشق ، وتعلمت لغات أخرى، إلا أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي وحنجرتي، وثيابي ..

إلى كل فنادق العالم التي دخلتها .. حملت معي دمشق. ونمت معها على سرير واحد.

 لقد تلوّن شعر نزار بلون الحياة الدمشقية. التي عاشها الشاعر منذ طفولته .. وحتى صباه وشبابه وكهولته وكل نبضة في قلبه تتغنى بحب دمشق وبعشق دمشق، وصارت في الدنيا دمشقان، دمشق الأصالة ، ودمشق الحبيبة .

بقلم الدكتور أسامة أديب المتني – مدير التفرغ العلمي في جامعة البعث/سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top
آخر الأخبار